ترامب وأوكرانيا- تحول أميركي، خيانة أم حتمية؟

لم يحقق الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، وعده بإنهاء الحرب في أوكرانيا خلال 24 ساعة من توليه السلطة، وهو الوعد الذي أطلقه إبان حملته الانتخابية في العام الماضي.
ولكن، بعد مرور ثلاثة أسابيع فقط على دخوله البيت الأبيض، بدأت الأحداث تتسارع نحو هذا الهدف. ففي الثاني عشر من شهر فبراير/شباط، أجرى ترامب مكالمة هاتفية مع الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، ثم أعلن عبر منصته Truth Social عن اتفاقهما على العمل المشترك لإنهاء ما وصفه بـ "الملايين من الوفيات" الناجمة عن الصراع الدائر بين أوكرانيا وروسيا. وعقب ذلك، تم الإعلان عن قمة مرتقبة بين الزعيمين في المملكة العربية السعودية.
في اليوم التالي، وتحديدًا في الثالث عشر من فبراير/شباط، كشف وزير الدفاع الأمريكي، بيت هيغسيث، خلال تواجده في مقر الناتو ببروكسل، عن بعض تفاصيل الخطة الأمريكية لوضع حد للحرب. وفي تحول جذري عن السياسات التي تبنتها الإدارة الأمريكية السابقة، صرح هيغسيث بأن أوكرانيا لن تتمكن من استعادة سيادتها الكاملة على جميع أراضيها، وأن الحديث عن انضمامها إلى حلف الناتو يجب أن يُستبعد تمامًا من أجل البدء في المفاوضات.
بهذه التصريحات، تكون إدارة ترامب قد تخلت بشكل فعلي عن ميثاق الشراكة الاستراتيجية بين الولايات المتحدة وأوكرانيا، الذي كان يؤكد على التزام واشنطن بوحدة الأراضي الأوكرانية، ويدعم اندماج كييف في المؤسسات الأوروبية الأطلسية، مثل الناتو والاتحاد الأوروبي.
وسرعان ما وصفت بعض وسائل الإعلام الغربية هذا التطور بأنه "خذلان وخيانة لأوكرانيا". وبالفعل، فإن واشنطن تتخلى عن كييف، إلا أن هذا الأمر لم يكن مفاجئًا على الإطلاق، بل كان بمثابة نتيجة محتملة للنهج الذي اتبعته الولايات المتحدة في تعاطيها مع أوكرانيا.
إلا أن ترامب ليس هو المسؤول الوحيد عن وضع أوكرانيا في هذا المأزق. فالخائن الحقيقي هم أولئك الذين منحوا أوكرانيا وعودًا زائفة بالانضمام إلى الناتو والاتحاد الأوروبي، ثم زجوا بها في مواجهة مع روسيا، ورفضوا أي حلول وسط في حرب من المستحيل أن تنتصر فيها.
على مدار السنوات الثلاث الماضية، بلغ الدعم الغربي لأوكرانيا ذروته من حيث تزويدها بالأسلحة المتطورة وفرض عقوبات اقتصادية قاسية على روسيا، وذلك دون المخاطرة بإشعال فتيل حرب عالمية ثالثة أو التسبب في أضرار جسيمة للاقتصاد العالمي.
لكن استمرار هذا الدعم اللامحدود لن يُغير من الواقع شيئًا: فروسيا دولة أكبر وأغنى من أوكرانيا، وتمتلك جيشًا قويًا قادرًا على التكيف مع متطلبات الحروب الحديثة، ولا يمكن هزيمته بمجرد إمداده بكميات هائلة من الأسلحة المتطورة.
بالإضافة إلى ذلك، فإن روسيا، باعتبارها قوة نووية عظمى، تمتلك دائمًا الكلمة الفصل في أي صراع إقليمي، وهو الأمر الذي حدّ من قدرة الغرب على التدخل المباشر. لذا، كان من المحتّم أن تتخذ إدارة أمريكية ما قرارًا بتقليص الدعم المقدم لأوكرانيا، لأن استمراره لم يكن ممكنًا على المدى الطويل.
وقد شاءت الأقدار أن تكون الإدارة الجمهورية هي من اتخذت هذا القرار المصيري. فالديمقراطيون محظوظون لأنهم لم يضطروا إلى فعل ذلك بأنفسهم، وبات بإمكانهم الآن استغلال هذا الموقف في معاركهم السياسية الداخلية ضد الحزب الجمهوري.
وعلى الرغم من ردود الفعل الغاضبة الأولية، يبدو أن الشركاء الأوروبيين لأوكرانيا قد بدأوا في الانسجام مع الموقف الأمريكي الجديد. ففي الرابع عشر من فبراير/شباط، صرح الأمين العام لحلف الناتو، مارك روته، بأنه لم يكن هناك أي ضمان قاطع على الإطلاق بأن أوكرانيا ستنضم إلى الحلف كجزء من أي اتفاق سلام مع روسيا، وهو ما يتعارض بشدة مع وعوده السابقة. ففي ديسمبر/كانون الأول من العام 2024، أكد روته، في مؤتمر صحفي مشترك مع الرئيس الأوكراني، فلاديمير زيلينسكي، أن "مسيرة أوكرانيا نحو عضوية الناتو لا رجعة فيها"، وأنها "أقرب إلى الحلف من أي وقت مضى".
والآن، ومع استبعاد فكرة انضمام أوكرانيا إلى الناتو، لا يبدو أن إدارة ترامب تتجاهل كييف بشكل كامل. فإشارة وزير الدفاع هيغسيث إلى إمكانية نشر قوات حفظ سلام أوروبية وغير أوروبية لمراقبة وقف إطلاق النار، جاءت بمثابة محاولة لتلبية بعض المطالب الأوكرانية بالحصول على ضمانات أمنية من الغرب. ولكنه استبعد نشر أي قوات أمريكية، وأكد أن قوات حفظ السلام من دول الناتو لن تكون مشمولة بالمادة الخامسة من الحلف، والتي تنص على الرد الجماعي ضد أي هجوم على أحد الأعضاء.
إلا أن هذه الطروحات لن تكون كافية على الإطلاق لتهدئة مخاوف الأوكرانيين. فالرئيس زيلينسكي أكد مرارًا وتكرارًا أن أي ضمانات أمنية من الغرب لا قيمة لها دون مشاركة الولايات المتحدة الفعالة.
في الوقت نفسه، من المرجح أن تعتبر موسكو أي وجود لقوات تابعة للناتو على الأراضي الأوكرانية بمثابة "حصان طروادة"، وهو ما يجعل هذه الفكرة غير قابلة للتطبيق على أرض الواقع. أما إرسال قوات أوروبية غير تابعة للناتو، فقد لا يمثل مشكلة كبيرة بالنسبة لموسكو، ولكن الدول الأوروبية غير المنضوية في الحلف، مثل النمسا وصربيا، قد لا تمتلك سوى بضعة آلاف من الجنود، وهو ما يعني أن معظم القوات يجب أن تأتي من دول الجنوب العالمي.
لكن في نهاية المطاف، تبدو مسألة قوات حفظ السلام وكأنها مجرد ترفيه عقيم. فالحل الأمثل لضمان سلام دائم يكمن في تبني أوكرانيا لسياسة الحياد الحقيقي، وتحقيق تقارب حقيقي وفعال بين روسيا والغرب. نعم، هذا التطور يمثل انتصارًا للكرملين، ولكنه كان النتيجة الواقعية الوحيدة منذ أن أُلقيت أوكرانيا تحت وطأة القوة الروسية.
وعلى عكس التوقعات الغربية التي كانت تتنبأ بانهيار الاقتصاد الروسي وسقوط النظام الحاكم تحت ضغط تداعيات الحرب، تمكنت روسيا من الصمود بل وتحقيق ازدهار اقتصادي بفضل الإنفاق الدفاعي الضخم. وعلى النقيض من الأوكرانيين، لم يتأثر المواطن الروسي العادي بالحرب لدرجة تجعلها عاملاً رئيسيًا في حياته اليومية ومجرياتها.
لا يمكن هزيمة الرئيس بوتين عسكريًا، ولكن من الممكن إسقاطه إذا ثار عليه الشعب الروسي. بيد أن الغرب وأوكرانيا قد ارتكبوا أفعالًا أدت إلى نفور حتى الروس الأكثر معارضة لبوتين، وذلك من خلال الخطاب العدائي والتمييز الممنهج ضدهم. ويبدو أن النخب المتشددة في الغرب لم تكن ترغب في تحقيق سلام عادل، بل كانت تسعى إلى إشعال حرب دائمة ومستمرة.
الخيارات المتبقية أمام أوكرانيا تبدو قاتمة ومأساوية للغاية. وقد تجلى ذلك بوضوح في خطاب زيلينسكي خلال مؤتمر ميونخ للأمن، حيث كان من المفترض أن يظهر بمظهر الواثق والمتحدي، ولكنه بدا أقرب إلى شخص يائس ومحبط. واقترح أن يشكل الجيش الأوكراني النواة الأساسية لقوة عسكرية أوروبية جديدة، وهو اقتراح غير واقعي على الإطلاق؛ لأنه سيؤدي إلى مواجهة مباشرة مع روسيا. كما حاول استمالة ترامب من خلال الإشارة إلى الثروات المعدنية الهائلة التي تمتلكها أوكرانيا، ولكنه تلقى ردًا أقرب إلى الإنذار النهائي، والذي يشبه إلى حد بعيد مصادرة استعمارية للموارد الأوكرانية.
لكن هذه التحركات موجهة بالأساس للداخل الأوكراني. فالرئيس زيلينسكي بحاجة ماسة لإقناع شعبه بأنه قد جرب جميع الحلول المتاحة، حتى تلك التي تبدو مستحيلة، وأن الغرب قد تخلى عنه في نهاية المطاف. وعندها فقط، سيتمكن من التسليم للأمر الواقع والحتمية التي لا مفر منها.
